فى السابع عشر من حزيران \ يونيو عام 1930 حلقت ثلاثة أرواح طاهرة صدّيقة صادقة ، شهيدة إلى ربها ، وشاهدة على جرم قوات الاحتلال الانجليزي ، بعدما نفذت قوات الانتداب البريطاني حكم الإعدام بحق عدد من الثوار الفلسطينين في أعقاب «ثورة البراق» التى هبت دفاعًا على الحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك ، والذي يعد وقفًا إسلاميًا خالصًا ، وجزء لا يتجزء من الحرم القدسي الشريف.
«ثورة البراق» التي إندلعت في عدة مدن فلسطينية كان في مقدمتهم مدينة القدس الشريف ، ويافا، وحيفا ، وصفد ، في 9 أغسطس 1929 والتي شملت عددا كبيرا من المدن والقرى الفلسطينية ، أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، والتى خلفت مئات الشهداء والجرحى، كما أسفرت عن اعتقال تسعمائة فلسطينيًا وصدور أحكامًا بالإعدام شنقًا على 27 فلسطينيًا.
بالطبع ، لم يهتز جفن الحكام العرب لمئات الجرحى والشهداء والأسرى، بل كان رد فعلهم أبسط مما يكون، حيث طلب بعضهم من حكومة المملكة البريطانية تخفيف أحكام الإعدام التى صدرت بحق الأسرى، وبالفعل خففت الأحكام على 24 منهم، وتم تنفيذ حكم الإعدام في 17 يونيو 1930، بسجن القلعة في مدينة عكا، بحق ثلاث محكومين هم «فؤاد حسن حجازي»، و«محمد خليل جمجوم» ، و«عطا أحمد الزير».
كان الشهداء الثلاثة قد اعدموا ، في سجن عكا، يوم الثلاثاء السابع عشر من حزيران يونيو عام 1930 ، في اعقاب الثورة ، وقامت سلطات الاحتلال البريطانية بإصدار احكام الاعدام بحق 26 مناضلًا فلسطينيًا شاركوا في الثورة ، ثم استبدلت بالسجن المؤبد لـ 23 منهم، ونفذت حكم الاعدام بالابطال الثلاثة.
وبعد أن حدد سلطات الانتداب يوم 17 حزيران \ يونيو عام 1930، موعداً لتنفيذ حكم الإعدام بحق هؤلاء الأبطال، فقد تحدى ثلاثتهم الخوف من الموت إذ لم يكن يعني لهم شيئاً بل على العكس تزاحم ثلاثتهم للقاء ربهم.
ومن المعروف كان «محمد جمجوم» يزاحم «عطا الزير» ليأخذ دوره غير آبه، وكان له ما أراد، أما «عطا» وهو الثالث، فطلب أن ينفذ حكم الإعدام به دون قيود إلا أن طلبه رفض فحطم قيده وتقدم نحو المشنقة رافع الرأس منشرح الوجه.
أما الشهيد «محمد خليل جمجوم» ، ابن مدينة الخليل، فتلقى دراسته الابتدائية فيها وعندما خرج إلى الحياة العامة عاش الانتداب وعرف بمقاومته للصهاينة ورفضه للاحتلال كما العديدين من أبناء الخليل، فكان يتقدم المظاهرات احتجاجاً على اغتصاب أراضي العرب، وكانت مشاركته في ثورة العام 1926 دفاعاً عن المسجد الأقصى ما جعل القوات البريطانية تقدم على اعتقاله.
وكان «فؤاد حجازي» أصغر الشهداء الثلاثة سنًا وهو مولود في مدينة صفد، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في الكلية الاسكتلندية، وأتم دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت ، وعرف منذ صغره بشجاعته وحبه لوطنه واندفاعه من أجل درء الخطر الصهيوني عنه وشارك مشاركة فعالة في مدينته في الثورة التي عمت أنحاء فلسطين عقب أحداث الثورة.
أما الشهيد «عطا الزير» من مواليد مدينة الخليل، وقد عمل في مهن يدوية عدة واشتغل في الزراعة وعُرف عنه منذ صغره جرأته وقوته الجسدية ، كما شارك في المظاهرات التي شهدتها مدينة الخليل احتجاجاً على هجرة الصهاينة إلى فلسطين، وفي ثورة البراق هب الزير مع غيره من سكان الخليل مدافعين عن الوطن والأهل بكل ما تفرت من إمكانات، وشهدت مدن فلسطين صداماً دامياً بين العرب والصهاينة، وفي تلك الفترة شهدت في الخليل نفسها قتل ستين صهيونياً وجرح خمسين آخرين.
وقد سُمح للشهداء الثلاثة أن يكتبوا رسالة في اليوم السابق لموعد الإعدام وقد جاء فيها: «الآن ونحن على أبواب الأبدية، مقدمين أرواحنا فداء للوطن المقدس، لفلسطين العزيزة، نتوجه بالرجاء إلى جميع الفلسطينيين، ألا تُنسى دماؤنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن نتذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسا لبناء استقلال أمتنا وحريتها وأن تبقى الأمة مثابرة على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الأعداء. وان تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأعداء منها شبرا واحدا، وألا تهون عزيمتها وألا يضعفها التهديد والوعيد، وان تكافح حتى تنال الظفر».
وأضاف الشهداء: «لنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وامراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، ألا يثقوا بالأجانب وسياستهم وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: ويروغ منك كما يروغ الثعلب».
وتابعوا: «على العرب في كل البلدان العربية والمسلمين أن ينقذوا فلسطين مما هي فيه الآن من الآلام وأن يساعدوها بكل قواهم، وأما رجالنا فلهم منا الامتنان العظيم على ما قاموا به نحونا ونحو أمتنا وبلادهم فنرجوهم الثبات والمتابعة حتى تنال غايتنا الوطنية الكبرى، وأما عائلاتنا فقد أودعناها إلى الله والأمة التي نعتقد انها لن تنساها. والآن بعد ان رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذا الحماس القومي، فإننا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين ونضع حبلة الأرجوحة، مرجوحة الأبطال بأعناقنا عن طيب خاطر فداء لك يا فلسطين، وختاما نرجو أن تكتبوا على قبورنا: إلى الامة العربية الاستقلال التام أو الموت الزؤام وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت».
وكان الشهيد «فؤاد حجازي» قد كتب وصيته بخط يده مؤكدا في ختامها: «ان يوم شنقي يجب ان يكون يوم سرور وابتهاج، وكذلك اقامة الفرح والسرور في يوم 17 حزيران يزنيو من كل سنة. ان هذا اليوم يجب ان يكون يوما تاريخيا تلقى فيه الخطب وتنشد الاناشيد على ذكرى دمائنا المهروقة في سبيل فلسطين والقضية العربية».
ترك الأبطال الثلاثة رسالة قوية لهؤلاء الحكام الذين رضوا المذلة والمهانة وسلموا بلادهم وأعراضهم إلى الإحتلال دون أدني مقاومة، واكتفوا فقط بدور التابع، وتركوا المحتل يعيث فسادًا دون حساب أو عقاب، كان مفداها، أنهم يرفضون تخفيف حكم الإعدام، لعل الله أن يجعل فى موتهم يقظة للشعوب التى استكانت على أمرها.
رحل الأبطال الثلاثة ، رحلوا بصمود وعزة وإباء ، رحلوا وتركوا لنا إرثًا ثقيًا ، وهمًا سمجًا ، وألمًا جافًا ، وحزنًا فظًا ، رجولا وتركوا لنا أمانة سرقتها منها الأنظمة العربية التى باعت نفسها لبني صهيوني بأبحس الأثمان.
سيظل سجن عكًا شاهدًا حتى ندخله فاتحين منتصرين بإذن الله ، سيظل شاهدًا على انحطاط المحتل ، ووضاعة السجان ، وصمود الأبطال وقوتهم ، سيظل شاهدًا على رقة قلبوبهم وقوة حبل المشنقة ، شاهدًا على حناجرهم التى هللت وكبرت ، وشاهدًا علي تخاذلنا وصمتنا وضعفنا ، رسالة الأبطال الثلاثة تخرج كل يوم من سجن عكا ، تتحس الجموع المحررة التى تدرك ثارات الأبطال , كل الأبطال ، وتطهر الأرض من نجس بني صهيون.
تعليقات
إرسال تعليق