وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون.. |
وكن من أنت حيث تكون..
كعادته كل ليلة منذ اثنين وعشرين عامًا، عندما غابت المدينة من أمام عينيه وتاهت في ظلام الليل الدامس، توقف عن دفع قاربه الصغير، أسند ظهره إلى جدار قاربه، آخذًا نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه لعله ينجح في تجاهل الضجيج الذي يعصر داخله. أراد أن يهرب من شبح الذكريات الذي يُطارده، لكن ظل تلك الذكريات كان يتمسك به كطيفٍ لا يفارقه.
بعد قليل، فتح عينيه رويدًا رويدًا متطلعًا إلى النجوم، وكأنها شهبٌ متلألئة في سماء صافية، تُداعب أحلامه بلمسات خفيفة. لكن الطعنات التي لا يزال يتألم منها كانت أقوى من كل محاولاته لإظهار اللامبالاة، كالأشواك تغرس في قلب وردة كانت في يومٍ ما غارقةً في النور. سحبت نظرته إلى ما وراء الأفق، وانطلقت أفكاره بعيدًا كالسحاب المتنقل، لكنها سرعان ما عادت لترتطم بجدران الحقيقة.
بدأت عينه اللامعتان تحت ضوء القمر تتسرسب منهما الدموع على مهل، كأنها تنزف الحكايات القديمة، وترسم على صفحة الليل صورتها الجريحة. قال في قرار نفسه: "كل الذين أحببتهم طعنوني من حيث أمنت لهم"؛ كأن الغدر يتجلى في أعينهم، يعبث بنقاء الروح، ضاربًا بمشاعر الألفة عرض الحائط. لم يكن هناك استثناء، كل أحبته تحولوا إلى طعنات عميقة في قلبه، تصرخ في صمته و تُذكره بواقعٍ مرير.
تلك الطعنات لم تكن مجرد جروح، بل كانت غزارة ألم مستمر، كما تتسرب المياه من صدع جدار قديم، يزداد اتساعه يومًا بعد يوم. إنه يتساءل: يا تُرى، هل يُعقل أن ينجرف الحب إلى أحضان الخيانة؟ أو يكون الوهم هو القائم على عرش العلاقة، يسخر من مشاعره الثرية، ومع مرور الزمن، يُخفيه في زوايا القلب المظلمة؟
في تلك الليلة الحالكة، كان يتذكر اللحظات السعيدة التي عايشها مع من أحب؛ كيف كان العالم يشع بالنور وينبض بالحياة، وكيف كانت الضحكات تُنير وجهه كأبخرة الصباح. لكن كل ذلك تلاشى كسراب في صحراء قاحلة، وحلت محله خيبات الأمل التي لا تُحصى.
أحس بوطأة الغياب، كأن كل من رحلوا تركوا بين أنفاسه صدى خافتًا، يدعو إلى الاستنطاق ويضعه في مهب الريح. "لماذا كل شيء كان مثاليًا في البداية؟" هكذا كان يتسائل في أعماق ذاته. لكن الواقع كان يُعيد إليه الأجوبة يومًا بعد يوم، يرفعه قبل أن يسقطه، كالأمواج التي تعود لتجرفه إلى أعماق البحر.
ثم أسقط رأسه إلى أسفل غير قادر على كبح مشاعره، وقلبه يشكو عذابات الفقد. وفجأة، أدرك أنه لا بد له من مواجهة تلك الحقيقة المُرّة: "الأحباء ليسوا دائمًا ملاذًا، بل قد يكونون زلازل تُغير مجرى الحياة." ومع ذلك، كانت يتوق إلى رؤية جديد، لحياة تتجلى فيها الصداقات الحقيقية، ويعود معه الإيمان بأن للحب قدرة على النهوض من تحت الدمار، كطائر الفينيق الذي يحلق من رماده.
يمد نظره إلى السماء ثم يأخذ شهيقًا شاقًا على صدره: "كل الذين غمرتهم بدفء حبي وسيل حناني، كنت مجرد مرحلة، لم أكن أكثر من محطة يقف فيها العابرون، محطة انتظار أو استراحة، لم أكن أبدًا أرضًا للبقاء. كنت أعيش في قسوة هذا الإدراك كمن يحمل قلبًا مُثخنًا بالجراح، يتأمل كيف أن الأحلام التي نسجتها على نول الحب قد تحولت إلى خيوط متهالكة، تتساقط مع كل فجر جديد".
ذلك المسكين الغارق في ظلام معاناته لم يشغل بال أحدهم يومًا أن يطيب خاطره، أو يداوي جروحه، بل كان دائمًا علامة سوداء بلا ذنب، كظلال ترافقه في كل خطوة، تعكس له واقعًا موجعًا. كان يضع نفسه في مضمار التجارب بلا ثمن، ويقدم ذاته بسخاء، وفي كل مرة يحصل على القليل من الألفة، والكثير من الإهانة، ويُعيده الزمن إلى نقطة البداية، حيث الألم هو الرفيق الدائم.
يمضي ليالي طويلة تحت سماءٍ بلا نجوم، يسأل نفسه: "لماذا لا يرى الآخرون عمق مشاعري؟ لماذا يُفترض دائمًا أن أكون الوصيّ على الأحزان؟ لم أتمنى يومًا أكثر من أن يحبني أحدهم كما أحببته، كما لو أن لي حقًا من تلك التي أقدمها بسلامة صدر وإخلاص نية".
أحيانًا، تتوارد إلى ذهنه أفكار غريبة، كأنه يعيش في قصة خيالية تُكتب بقلم قاسٍ لا يُحسن المرونة. كرحالةٍ تائه في صحراء شاسعة، يتمنى العثور على واحة تُعيد له الأمل، ولكن المفاجآت دائمًا تؤكد له أنه لا يستطيع الاعتماد على عواطف الآخرين، ولا على وعود باهته تفقد بريقها مع مرور الزمن.
لا يستطيع أن يكون سنبلةً تحتاج إلى رياح أخرى لتنمو، بل يجب أن يتعلم كيف أن يكون غابة بحد ذاته، كيف يستخرج من وجعه دروسًا تجعله يُزهر في أحلك الظروف. كيف نقنعه أن ذلك الأمل الذي يُراوده على هيئة نسمات باردة يزوره كطيف، دافع للحياة كنسيم يُحيي الموتى.
وفي كل لحظة يدرك فيها حجم معاناته، كان عليه أن يقرر أن يتقبل كل الألم بلا مقارعة، أن يستوعب كل الطعنات، ويرتديها كعلامة من علامات تجربته العميقة، كالأبطال الذين لا يُستسلمون. وأن يسعى ليكون أقوى، يملأ قلبه بالتفاؤل، يعلم أن النجوم تلمع في الأحلك الأوقات، وأن الجمال يمكن أن يتجلى في صميم الحزن، مُحققًا لنفسه رياحًا جديدة تحمل أسماء الأمل وتجدد الروح.
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
وكن من أنت حيث تكون..
تعليقات
إرسال تعليق